Tuesday, July 11, 2006

 

الجعليين .. السكان والمكان 2

الهجرات العربيَّة الى كوش وليام آدمز ترجمة د. محجوب التيجاني جسدت الهجرات العربية الى كوش التحرك السكاني الأكثر تأثيراً فى تاريخ البلاد, وأدت تلك الهجرات, خلافاً لهجرات تمت فى أزمان أسبق, الى تبدل رئيس فى مركب الثقافات الكوشية المحلية وفى التركيبة الاثنية للسكان الأصليين. يؤكد الواقع الأنثروبولوجى الماثل فى السودان الحالي حدوث عملية تماثل من جانبين, فمن جانب تمَّ تأصيل العرب الوافدين ومن جانب ثانٍٍ استعراب جزء كبير من سكان الشمال الجغرافي للسودان. وتشير المعطيات الاثنو- تاريخية الى أن الغالبية العظمى من العرب الوافدين كانوا من الأعراب البدو, وكان تأثيرهم الذى مارسوه على الكوشيين الأصليين آحادياً غير متنوع, هذا بينما أظهر الأخيرون الذين استضافوا الوافدين تشكيلة متنوعة من الثقافات واللغات, وبالتأكيد كان تأثيرهم على العرب بالقدر نفسه من التنوع, وفوق ذلك كانت هناك اختلافات بيئية أساسية فى كوش, المهجر الجديد للوافدين, فرضت عليهم سرعة الاستجابة تكيفاً مع ظروف بيئية متنوعة. وهكذا فان عملية التمثل أدَّت الى نشوء مركب فسيفسائي للشعوب وللثقافات واللغات يؤلف السودان الحالي. ولاشك أنَّ تريمنجهام كان محقاً فى القول بأنه أينما تغلغل العرب كان النصر دائماً حليفاً لدينهم الذى يدفع بمنافسيه الى الوراء Trimingham، ومن ثمَََََّ لا خلاف حول حقيقة كون الدين الإسلامى يمثل حالياً القاسم المشترك الأعظم للقبائل العربية والمستعربة فى الشمال الجغرافي للسودان الحالي. من جانب ثانٍٍ أخذت لغة العرب الوافدين فى الانتشار مع ملاحظة أن شعوباً كوشية محلية مثل النوبيين والبجة نجحت ليس فى الصمود أمام تيارها الكاسح فحسب بل أنها استوعبت عدداً من الوافدين الناطقين بالعربية فى مجموعة لغاتها المحليَّة المختلفة. رغم أن أبناء الشمال الجغرافي للسودان يعدون أنفسهم اليوم , كما أشار الى ذلك ماكمايكل MacMichael منتمين الى مائة قبيلة عربية منفردة وقد يكون أكثر, فان الواقع الأنثروبولوجى يشير الى وجود خمس مجموعات ثقافية ولغوية وسط هذا الكل الهائل من تلك القبائل . فإذا بدأنا بقبائل الشرق فانه يصعب علينا إفراز حدث بعينه كبداية لتحركات عربية جارفة الى منطقة ساحل البحر الأحمر والتلال المتاخمة له, إلا أنَّ بينة تاريخية غير مكتملة نوعاً ما تشير الى أن الفترة التى أعقبت حملة المعتصم فى عام 831 شهدت تحركاً واسعاً للعرب فى منطقة تلال البحر الأحمر الى الشرق والجنوب قادمة من مصر, وقد عدَّ يوسف فضل أن حملة المعتصم شكلت الحدث الهام فى فتح تلال البحر الأحمر أمام ما أسماه الاستيطان العربى, ورغم أن هذا الاستيطان العربى انحصر فى الفترة من القرن التاسع حتى الرابع عشر فى المنطقة الواقعة الى الشرق من النيل, فان قبائل البجة مع اعتناقها الدين الاسلامى ظلت ولازالت تحافظ على لهجاتها المحلية التى تنتمى الى مجموعة اللغات الكوشية من عائلة اللغات الآفر-آسيوية, ذلك أن تلك القبائل لم تمسسها عملية التمثل, وان كانت قد فعلت فانما بصورة طفيفة. وفى أقصى شمال الشمال الجغرافى تعيش على ضفتى النيل المجموعة الاثنية الثقافية المعروفة باسم المحس امتداداً من المحرقة فى الشمال حتى الشلال الثالث (تُمبس) فى الجنوب, ويعد المحس أنفسهم منتمين الى ثلاث مجموعات هى المحس والسكوت والفديجا, والتى تعبر عن مسميات جغرافية أكثر منها اثنية ثقافية. والواضح أن المحس من بين كافة أهل الشمال الجغرافى للسودان هم الأقل تأثراً بالهجرات العربية, ومن ثمَّ الأقل استعراباً, والسبب فى ذلك هو تجنب التحركات السكانية, فيما يبدو, لإقليم المحس بفعل عاملين تمثلا فى الجفاف والظروف الجغرافية التى جعلت من الإقليم منطقة معزولة عن المراعى المأهولة بسبب امتداد شريط صحراوى هو الأكثر عرضاً فى كل وادى النيل. الى الجنوب من الشلال الثالث يمتد إقليم الدناقلة حتى انحناءة النيل الكبرى فى الدبة, ورغم أن الدناقلة لازالوا, شأنهم شأن المحس, يحتفظون بلهجتهم الدنقلاوية التى هى فرع من اللغة النوبية, فإنهم يظهرون تأثراً بالمظاهر العربية أقوى بكثير مما هو ملاحظ عند المحس, مرَّد ذلك أنه ومنذ الإطاحة بمملكة دنقلا المسيحية من قبل قبائل عربية وبنى كنز العرب المتنوبنين ظل الدناقلة فى حالة احتكاك وثيق ومتواصل بالوافدين العرب, هذا بالإضافة الى أن إقليمهم الاثنى كان ملتصقاً فى الجنوب وفى الغرب بمراعى هامشية احتلتها منذ بداية التدفق العربى قبيلة الكبابيش التى هى فرع لاحق من جهينة, وقبيلة الهواوير البربرية المستعربة. وأهم فروع الدناقلة هم البديرية والطريفاب والحكيماب والجوابرة, ويدَّعون جميعهم تحدراً من العباس شأنهم فى ذلك شأن قبائل الجعليين. الى الجنوب من الدبة على ضفتى النيل تعيش المجموعة الجعلية امتداداً حتى ملتقى النيلين الأبيض والأزرق عند الخرطوم, وتتكون هذه المجموعة من نوبيين مستعربين بصورة أساسية يؤلفون ما يتجاوز الأربعين قبيلة مختلفة أهمها من الشمال الى الجنوب بمجرى النيل: الشايقية والمناصير والرباطاب والميرفاب والجعليين, وتتقاسم كل قبائل هذه المجموعة شجرة نسب واحدة يبدأ تسلسلها من العباس عم النبى عليه أفضل الصلوات عن طريق جدهم المسمى إبراهيم جعل. الى الشرق والغرب من المجموعة الجعلية تعيش مجموعة لا حصر لها من العرب البدو رعاة الابل الذين يمارسون نمط حياة بدوى متنقل ويرجعون نسبهم الى جهينة. وفى أراضى العشب الجنوبيَّة فى كردفان ودارفور تعيش مجموعات عربية نالت التسمية العامة البقارة والتى ترعى الأبقار بدلاً عن الابل وينسبون أنفسهم بالمثل الى جهينة, واستوعبت جماعات البقارة جزءاً كبيراً من السكان الأصليين. وبعد أن تمَّ استعراب غرب السودان بدأت وفق ما تشير اليه البينة التاريخية موجة ختامية من هجرات العرب البدو الى السودان مباشرة عن طريق مصر الى كردفان ودارفور بعيداً عن النيل عبر طريق القوافل الواقعة الى الغرب منه والذى صار يعرف لاحقاً بدرب الأربعين, وكان بعض الوافدين عبر هذا الطريق من عرب الهوارة المصريين, وبعضهم الآخر من قبيلة فزارة التى ربما تكون ممثلة لفرع من قبيلة قيس عدلان. المشكلة الرئيسة ذات الارتباط بأزمة السودان الماثلة تتمركز حول حقيقة أن فترة التمثل التى أعقبت وصول الهجرات العربية يكتنفها الغموض ذلك أن التحدارات الشفاهية تصمت كلياً فيما يتعلق بهذا الموضوع, أو أنها اذا تعرضت له فإنما يكون ذلك بصورة تحوى قدراً من التضليل المتعمد بفعل نزعة ساذجة تهدف الى إهمال الثقافات الكوشية المحلية فى بلورة الثقافة العربَّية الإسلامية المميزة للشمال الجغرافي للسودان الحالي, أو نفى ذلك الإسهام جملة وتفصيلاً بحسبانه نتاجاً وقتياً أملته عملية تزاوج العرب الوافدين مع قلة من النساء المحليات, وهو كما سبق أن أشار إليه يوسف فضل بشأن هذا النوع من التحدارات الشفاهية: "عادة ما تكون الرواية واحدة لا تتبدل, أن الأسلاف الأصليين كانوا عرباً, لكن اللغة والعادات غير العربية تمَّ اكتسابها بفعل التزاوج بين العرب الوافدين والنساء المحليات ". مثل هذا العقل الانسدادى يرفض أن يرى حقيقة أنه وفى مجرى عملية الأسلَّمة والاستعراب تغلبت القيم والمؤسسات الإسلامية على مفاهيم النظم السابقة وممارساتها, لكنه من الجانب الثاني بدا وكأن الأخيرة قد عززت مكانة الأولى, وهذا ما لاحظه جاك مندلسون عندما كتب عن الكوشيين فى الشمال الجغرافي للسودان الحالي بأنهم: "مارسوا عبقريتهم من أجل الاستيعاب, وذلك عن طريق إعادة تشكيل دين الرسول محمد بشكل يتناسب مع أذواقهم أكثر من رغبات علماء اللاهوت..غنوا و رقصوا و وثنوا جزءاً كبيراً منه, لكنهم التزموا دوماً الحقيقة بوحدته المتأصلة تحت حكم الله الواحد الأحد" Mendelson . على كل بقى هذا النمط من التحدارات الشفاهية سائداً ولازال وسط كافة القبائل الكوشية التى اعتنقت الإسلام فى السودان الحالى, هكذا لم نصبح نحن سكان الشمال الجغرافي للسودان مسلمين فحسب بل عرباً بالمثل, ذهبت ذكريات الماضى العظيم الشرعي, الذى عرضنا لجزء يسير منه فى الصفحات السابقة, لتتملكنا نحن أحفاد ملوك كرمة ونبتة ومروى, نوباديا والمقرة وعلوة رغبة فى أن نستمد سلالتنا السالفة من قبائل وافدة من بلاد تقع فى ما وراء البحر, لم تحتضن مجموعاتنا الاثنية الكوشية الأصيلة فى الشمال الجغرافي للسودان الحالي فى انتقالها من عالم الوثنية أو المسيحية الى عالم الإسلام مصيراً جديداً فحسب, بل احتضنا معه تاريخاً اثنيا جديداً, إنه ادعاء لايمثل مجرد زعم وهوى لكنه, أنثروبولوجياً, نسب اجتماعي أكثر منه نسب بيولوجى ذلك أنه ميثاق عضويتنا فى الجماعة الإسلامية. Trimingham,J.S., Islam in the Sudan, London 1949. MacMichael, The History of the Arabs in the Sudan, vol.I, Cambridge 1922, pp.197-236.

Comments: Post a Comment



<< Home

This page is powered by Blogger. Isn't yours?